بقلم سعيد ناشيد
قبل البدء: في البدء نكون مثليين
كثيرة هي الفرضيات العلمية حول مصدر ميولنا الجنسية ومنشئها، يتعذّر علينا الانحياز لإحداها، وهو في كلّ أحواله، انحياز لن يفيدنا كثيراً في دعم حقوق المثليين، خلافاً لما جرى الاعتقاد به، وهذا ما سنعرج عليه لاحقاً، على أنّ إحدى تلك الفرضيات، يهمّنا أن نستعرضها الآن، ليس انحيازاً إليها، وإنما لأجل عدم تركها وإهمالها.
أقصد بالفرضية العلمية تلك التي ينادي بها الكثير من الباحثين، وتؤكّد أننا جميعنا نولد مثليي الجنس، أو أننا، على وجه التحديد، نخرج من أرحام أمهاتنا بميول جنسية مزدوجة، ويستغرق منا الأمر حيناً من الدّهر قبل أن يصبح غالبيتنا غيريي الجنس؛ هذه الفرضية، سواء لأننا نلاحظها بالحسّ والحواسّ، أو لمجرّد أنها فرضية علمية، فإنّها تمنحنا الحقّ في أن نستنتج بأنّ الممارسات الجنسية المثلية حقّ طبيعي من حقوق الإنسان، وأنها لكذلك في كلّ أحوالها؛ سواء اعتبرناها ثمرة الفطرة أو الرّغبة أو الإرادة، وفي هذا التقدير خلاف سنعرض لبعض جوانبه بعد حين.
ماذا بوسعنا أن نستنتج الآن؟
هل يمكننا أن نستنتج بأن المثليين والمزدوجين هم أشخاص طبيعيون، بل هم أكثر طبيعية منّ الغيريين المنزاحين عن فطرتهم الأولى؟
معظم الثقافات التقليدية تستحضر هذه الخلاصة، وتتفهم تلك القابلية للمتعة المثلية وللمتعة المزدوجة، ولا تختلف سوى في أساليب ووسائل تلبيتهما وحدود الهامش المتاح لهما، وحتى بعض الديانات التي يبدو وكأنها جرّمت الأفعال المثلية، فإنما جعلتها في عداد شهوات الجنّة ومتع الآخرة، وفي كلّ الأحوال ثمّة تواضع إنسانيّ على الاعتراف بوجود شهوة مثليّة، متجلّية أو كامنة، لدى الكثيرين ولو بدرجات متفاوتة في التجلّي والكمون.
هل بوسعنا أن نختبر فرضيتنا الآن؟
إذا كانت صحة أيّة فرضية تتأتّى من قدرتها على تفسير ظواهر جديدة، فلعلّنا نلتمس في فرضيتنا، تفسيراً لظاهرة رهاب المثلية، باعتبارها نوعاً من الخوف الباطنيّ من شيء نحمل أثره في ذواتنا على الدّوام.
وترانا الآن واقفين على عتبة سؤال جديد: إذا كنا لا نولد بالضرورة غيريين، فكيف نصبح كذلك؟
هل بالتعلم والتمرّن حدّ المقاومة والعناد؟ هل هو الضغط الثقافي لأمّهاتنا تحت تأثير عقدة الخصاء لديهن؟ هل هو الميل الطبيعي لأعضائنا التناسلية صوب علّتها الغائية؛ حيث علّة وجود القضيب، أن يمتع المرأة، وعلّة إمتاعها الإخصاب، وعلّة إخصابها التناسل…؟
موضوع العلّة الغائية يضعنا أمام أوّل تحدّي، وهو أرسطو.
أرسطو والمثليون: استنباط متسرّع
العلّة الغائية هي ما يبرّر وجود الشيء حسب منطق أرسطو، ومن ثمّة قد نستنتج ولو باستدلال متسرّع، بأنّ الشهوة موجودة من أجل غاية أخرى تتجاوزها، لهذا السبب انهال الكثير من المناضلين المثليين بالنقد على أرسطو، إلاّ أنهم فعلوا ذلك لسبب آخر أيضاً.
لا شك أنّ أرسطو لم يكن معادياً للممارسات المثلية، لكنّ الكثير من المناضلين المثليين يعتقدون بأن منطق أرسطو ثنائيّ القيم، قد كرّس في الوعي البشري تلك النّظرة الثنائية إلى الجنس، والموصولة بمبدأ الثالث المرفوع: إنّك إمّا أن تكون ذكراً أو تكون أنثى، ولا يمكنك أن تكون كليهما في نفس الآن، ولا يمكنك أن تكون لا هذا ولا ذاك في نفس الآن.
أرسطو لم يقل ذلك القول بصريح اللفظ والعبارة، لكنّ الكثيرين اعتقدوا أنّ ذلك القول هو النتيجة المستنبطة من منطق أرسطو ثنائيّ القيم.
ولعلّ هذا الاعتراض الجنسمثليّ على منطق أرسطو، يُغفل معطى تاريخياً أساسياً، وهو أنّ رفيق أرسطو ونموذجه في البطولة والزعامة كان مثلياً سلبياً، ألا وهو الإسكندر الأكبر، فكيف يجوز لنا أن نستنبط من منطق أرسطو أية نزعة معادية للمثلية؟ ألا يتعلق الأمر باستنباط متسرّع؟
فرويد والمثليون: العودة إلى السياق
العديد من المناضلين المثليين الجذريين، يعتقدون بأنّ سيغموند فرويد يتحمّل مسؤولية إشاعة الموقف الذي انتهى إلى تصنيف الممارسة المثلية ضمن الأمراض النفسية، وذلك حين اعتبر المثلية "توقّفا في النموّ الجنسي" للإنسان، ومعلوم أنّ المنظمة العالمية للصحة نفسها، لم تقرّر حذف المثلية من لائحة الأمراض النفسية إلاّ في عام 1990، بما يعني أننا تأخرّنا كثيراً، وأنّ نخب الفكر العقلاني الغربي قد تكون ساهمت في هذا التأخّر.
نفترض ابتداء بأنّ الأمر يتعلّق بمجرّد سوء تفاهم، انتهى إلى تصنيف مكتشف اللاّشعور، ومن منظور بعض الحركات المثلية الجذرية، ضمن التيار المحافظ والمعادي لحقوق المثليين، والحال أن اللوم الموجه لفرويد، يغفل عن ذكر، أو عن إدراك، السياق الذي قرّر فيه فرويد -والذي لم يكن معادياً للجنسمثلية- أن يعتبر المثلية بمثابة توقّف في النموّ الجنسي.
موقف فرويد جاء ضمن فرضيات تحليلية كانت في طور الاختبار، فرضيات تجعل المراحل الأولى للنمو الجنسي عند الأطفال، بمثابة الحلقة المركزية والحاسمة في تحديد اتجاهات النمو عند الإنسان، لذلك كان فرويد يستبعد أية إمكانية لتعديل اتجاهات النمو الجنسي، والتخلص من التثبيت La fixation، إذا ما "اكتمل نضج وتطوّر" الشخص في أيّ اتجاه من الاتجاهات، غير أنّ الموقف التحليلي الفرويدي تزامن أيضاً، مع سياق اشتهر بحملات التحريض على كراهية المثليين، حملات شنّها النازيون منذ المراحل الأولى للدعاية النازية، وجاءت في سياق تاريخ ثقافي معاد للمثليين، قبل أن يتم اقتياد العشرات من المثليين إلى معسكرات الإبادة الجماعية، وذلك عقب بداية هيمنة الحزب النازي على السلطة. وهكذا طوّر فرويد فرضياته التحليلية، في اتجاه نزع طابع الجريمة عن الميول الجنسية للمثليين، وسحب المشروعية عن دواعي تجريمهم ومعاقبتهم.
أما حين نستحضر موقف فرويد من المثليين، بمعزل عن فرضيات النمو الجنسي عند الأطفال، وبمعزل عن حملات التنكيل التي عاينها فرويد، مع بدايات صعود النازية، فإننا نظلم كلاّ من التحليل النفسي والمثليين على حد سواء، وحين نقف عند حدود القول بأنّ التحليل النفسي اعتبر المثليين أشخاصاً "يعانون" من "أوديبية مقلوبة"، بمعنى "غير طبيعية"، جراء "توقف نموهم الجنسي"، فإننا ننسى بأن الأصل في كلام فرويد أنه يختبر قدرة فرضياته التحليلية على مواجهة سياق ثقافي معادي للمثليين، منذ القرون الوسطى ووصولاً إلى حملات النازيين.
وأيّا يكن، فحتى لو اتفقنا مع بعض المواقف التي تقول بأننا حين نعتبر المثلية توقفاً في النمو الجنسي، فإننا نفتح الباب أمام القول بأنّ المثلية عرض سيكولوجي، إلاّ أن فرويد هو نفسه الذي يعتبر كافّة أشكال الإبداع الفنّي والجمالي من أطيب ثمرات الأعراض النفسية والأمراض اللاّشعورية، إننا حتى في الحبّ الجنسي الغيريّ، نفيض باستيهامات غير عادية، وقد لا تكون سوية بالمعنى المبتذل للسوي، ومحصلة القول، أن فرويد هو من يعلمنا أننا لا نكون أسوياء ولا نكون عاديين إلا حين نكون مبتذلين.
لقد ناهض فرويد موقف النازيين والذي يعتبر بأن المثلية قدر بيولوجي يحمله بعض الأشخاص منذ ما قبل الولادة، ولا سبيل لتغييره من غير الاجتثات، وحاول أن يعثر للظاهرة على تفسير يحررها من كل أشكال الحتمية البيولوجية، ليجعلها مجرّد اختيار لاشعوري.
وواقع الأمر أن المثليين غير متماثلين وغير متجانسين، فمستويات التفريغ العاطفي تختلف، ودرجات السلبية أو الإيجابية تتفاوت بدقة لا متناهية من فرد لآخر، كما أن العلاقة بين الميل والممارسة تتنوّع من فئة لأخرى، وما قد يندرج في بعض عوامل الوراثة لدى البعض، ليس أكثر من ميول نفسية لدى البعض الآخر، وما هو مجرّد ميل جسدي لدى البعض، هو أيضاً انجذاب عاطفي لدى آخرين، ومن هنا لا يمكننا أن نستبعد الفرضية الفرويدية عن بعض مظاهر الجنسمثلية باعتبارها نوعاً من الأوديبية المقلوبة، شريطة أن لا نعتبر الأمر سلبياً، تماما كما تستطيع بعض الحركات المثلية أن تفترض أهمية التفسير البيولوجي، من غير أن تنتهي إلى نفس النتائج الاستئصالية للنازيين.
سارتر والمثليون: سوء تفاهم
يتعرّض سارتر، هو الآخر، إلى انتقادات لاذعة أحياناً، من طرف بعض الحركات الجنسمثلية، والتي وإن كانت تسجل لصالحه بعض الاختراق الإيجابي للموضوع، في كتابه الشهير، "الوجود والعدم"، إلا أنها لم تشفع له الصورة السلبية للمثليين في العديد من أعمالة الروائية والمسرحية، حيث يصبح الجنسمثلي لوسيان فلورييه، في قصة "طفولة زعيم"، من بين أعضاء اليمين المتطرف قبل أن يتحوّل إلى متعاون مع الاحتلال النازي.
وفي مسرحية "الجلسة المغلقة"، تجد امرأة جنسمثلية نفسها في جهنم داخل غرفة مغلقة، وفي رفقتها الأبدية رجل وامرأة جنسغيريان، عقوبتهما أنهما سيعجزان عن ممارسة الجنس أمام أنظار ممتعضة لامرأة لا تشاركهما نفس الميل، وعقوبة هذا الأخيرة أن ترى ما لم تكن تحبّ، وهنا سيطلق الرّجل عبارته الشهيرة: جهنم هي الآخر.
وراء ما يبدو وكأنها صور سلبية للمثليّ وللمثلية، فإنّ المعادلة الصعبة التي جابهها سارتر، تتعلق بالسؤال التالي: كيف نجعل الشخص المثلي يتحرّر من الشعور بالذنب، والذي قد يسوقه أحياناً، إلى اختيارات سياسية عنيفة ومتطرفة، ولو من باب التكفير على ما يراه المجتمع ذنباً، وذلك من غير أن نسلمه للحتمية البيولوجية؟ بمعنى كيف نجعل الجنسمثلي حرّاً ومسؤولاً عن اختياراته من غير أن يشعر بالذنب؟
وإن كانت الحتمية البيولوجية، شأنها شأن الجبرية الدينية، قد حرّرت الإنسان من الشعور بالذنب، إلا أنها في المقابل قد نزعت عنه حريته، أما وأنّ الإنسان محكوم عليه بالحرية، وأننا في كل لحظة نختار، كما يقول سارتر، فلا بدّ أن يجد هذا الأخير طريقة لتحرير المثليين من الشعور بالذنب من غير التفريط في قضية أنهم أحرار في اختياراتهم.
لقد أماط سارتر اللثام عن أمر بالغ الأهمية، ويجب على الحركات الجنسمثلية أن تأخذه بعين الاعتبار، وهو أن أسوأ ما قد يعانيه المثلي، فيسوقه إلى اختيارات سياسية متطرفة، كما فعل لوسيان في قصة "طفولة زعيم"، هو عقدة الشعور بالذنب، لذلك فمن مصلحة المجتمع أن يساعد المثليين على التحرّر من تجربة الشعور بالذنب، وذلك عبر اعتراف الجميع بأن الميول الجنسية للأفراد حقّ أساسي من حقوق الإنسان، ويبقى السؤال، ألا ينطبق هذا التحذير على الكثير من المتطرفين الدينيين أو الجهاديين، والذين يخفون خلف رداء الدفاع الشرس عن الشرف ميلاً لاشعورياً يشعرون معه دائماً بعقدة ذنب كامنة؟
وبالعودة إلى فرويد، ألا يكون المرض الفعلي، هو التعامل مع "المرض" وفق الشعور بالذنب بدل التعامل معه كشحنة للإبداع، للإندفاع، وللحياة غير المبتذلة؟
إن سارتر الذي لا يؤمن بوجود طبيعة بشرية ثابتة، وينفي إمكانية اختزال الإنسان في أي جزء أو جانب هوياتي، يضعنا أمام سؤال هام؛ هل بوسعنا أن نعترف بحقوق المثليين بناء على حق الإنسان في الاختيار، ومن غير أن نجعل هذا الإنسان يقع في تجربة الشعور بالذنب؟ أم أننا لا نستطيع أن نعترف بتلك الحقوق إذا لم نفترض وجود حتمية بيولوجية تحدد لنا مسبقاً ميولنا الجنسية؟ ألسنا هنا نمنح الحرية للإنسان بناء على أنه لا يستطيع أن يكون حرّاً؟ ألسنا هنا نستعيد الموقف الصوفي القديم والذي يدعو إلى التسامح مع اختيارات الناس بناء على أنهم لا يختارون إلا ما قدره الله عليهم؟
إن أهم ما انتبه إليه جان بول سارتر، لاسيما في روايته طفولة زعيم، هو أن شعور المثلي بالذنب، والذي هو محصلة تجريم العلاقات المثلية، قد يقود الأشخاص المثليين، إلى نوع من إسقاط الذنب على الذات، ومن ثمة النزوع إلى اختيارات سياسية تكفيرية ومتطرفة لمقاومة ميولاتهم المثلية، والواقع أننا نستطيع أن نستنتج بأن الاعترف بوجود ميول جنسمثلية متفاوتة التجلي والظهور لدى الغالبية العظمى، يعد طريقاً أساسياً لبناء مجتمع الوضوح والشفافية، فيه يتحقق مبدأ اعتراف الجميع بالجميع، والذي هو غاية التاريخ ومرمى العقلانية، وفق الأطروحة المركزية لهيجل.
نحو منظور كانطي للشهوة
يقول كانط بأن الإنسان غاية في ذاته، بمعنى أن الإنسان ليس وسيلة لأية غاية أخرى، وأن كل فرد هو غاية ذاته، وتبعاً لذلك، لا يحق لأي شخص أن يحط من قيمة الكرامة الإنسانية، سواء في ذاته، أو في ذات غيره، لايحق له أن يجعل من نفسه خادماً ومطيعاً لغايات أخرى.
لنضع أمام نصب أعيننا هذا المبدأ الكانطي الهام، ولنتساءل حول الموقف الذي يعادي ويجرم المثلية، معتبراً أن ما يبرر الشهوة الجنسية ويمنحها المشروعية، هو غايتها والمتعلقة بالتكاثر والتناسل، ويستنتج تبعاً لذلك، بأنه إذا كانت مشروعية الجنس الغيري مستمدة من تحقيق غاية الإنجاب، فإن الشهوة الجنسمثلية لا تبررها أية غاية، ولذلك فإنها تفقد مشروعيتها، وتستحق الإدانة والتنديد.
على ضوء المبدأ الكانطي إياه، ما عسانا نستنتج من هذا الاعتراض المناهض للحقوق الجنسية للمثليين؟
نستنتج من ذلك الاعتراض بأن الإنسان مجرّد أداة للإنجاب، وأن الشهوة الجنسية ليست غاية في ذاتها، ليست شيئاً مبرراً في ذاته، بل إنها تكاد تكون شيئاً غير مبرر بإطلاق، مجرّد فخ وضعته الطبيعة لغاية النسل، مجرّد طريق غبية نحو هدف أكثر ذكاء، وسيلة لا قيمة لها في ذاتها لو لم تبررها غاية سامية، وما هي هذه الغاية السامية؟ بعد الشهوة يجب أن ينتهي القذف إلى الرّحم مباشرة.
هكذا نفهم كيف أن إدانة الشهوة المثلية هي جزء من إدانة الشهوة الجنسية بأكملها، واعتبارها عملية مهينة لا تشفع لها سوى غايتها، والتي هي الإنجاب.
من هنا تمثل الشهوة المثلية انقلاباً في قيمة الشهوة الجنسية، انقلاب يتعلم منه الغيريون والمزدوجون بدورهم، كيف يتحرّرون من تصور الشهوة باعتبارها مجرّد وسيلة، والنظر إليها كغاية في ذاتها، وربّما هي أم الغايات كما سبق أن أقرّ الأبيقوريون قبل مئات السنين.
ماهو الزّواج المثلي؟
منذ بداياتها الأولى في سنوات الثمانين، واجهت الحركات المثلية تحدياً مفاجئاً، فقد تزامن ظهورها مع البدايات الأولى لظهور مرض الإيدز، ولم يكد ينفرط عقد الثمانين، حتى كان قد توفي عدد ملحوظ من المناضلين والفنانين والمفكرين المثليين، جراء المرض الجديد.
راهن الكثير من المحافظين على أن الإيدز هديتهم من السماء، وأنها الصخرة التي ستتحطم عليها موجة الحركة الجنسمثلية في مهدها، بل وستنكسر عليها كافة أشكال ومظاهر الحريات الجنسية، وهو الانتظار الذي لم يتحقق.
فبخلاف ذلك التوقع، تحوّلت المجموعات الجنسمثلية، من مجموعات مغلقة، متخفية وتعاني من الهشاشة والارتباك أمام انتشار المرض، إلى مجموعات علنية، شفافة ونشيطة في مقاومة مرضّ الإيدز، ومعه كافة الأمراض المنقولة جنسياً، وقد ساهمت تلك المجموعات، بنحو حاسم، في انحسار المرض، ولعلّ المرض دخل فعلاً، طور الانحسار داخل المجتمعات الأكثر شفافية وتسامحاً. على أنه ومن أجل كسب المعركة ضدّ المرض، تبنّت الحركات الجنسمثلية، داخل المجتمعات المتقدمة ثم خارجها، قضيتين أساسيتين: العازل الطبي والزّواج المثلي.
فقد كان التحدي المطروح أمام الجنسمثليين يتعلق بالسّؤال التالي:
كيف نحارب الإيدز، ومعه كافة الأمراض المنقولة جنسياً، من غير القضاء على الحرية الجنسية ومن دون المساس بكرامة الجنسمثليين؟
الذي يحمي الحرية حسب سارتر، هو المسؤولية والإلتزام.
حين ننقل هذا المبدأ السارتري إلى مجال الحريات الجنسية، ماذا نستنتج؟
نستنتج بأن الزّواج المثلي الذي اقترحته الحركات الجنسمثلية ضمن مطالبها، في مواجهة انتشار الإيدز، يمثل أيضاً، تكثيفاً لقيمة الحرية الجنسية من حيث هي مسؤولية متبادلة، التزاما واضحا، اعترافا متكافئا، وقبل ذلك، تعاقدا حرّا بين إرادتين حرّتين؛ إرادتان اثنتان فقط.
وإذا كنا قد أعلنّا منذ البداية، بأنّ دعم حقوق المثليين والمثليات، لا يشترط بالضرورة، الانحياز لأيّة فرضية من الفرضيات العلمية حول مصدر ومنشأ ميولنا الجنسية، فلأننا نعلم علم الحسّ السليم، بأنّ الوطن للجميع والفراش لاثنين فقط.
قبل البدء: في البدء نكون مثليين
كثيرة هي الفرضيات العلمية حول مصدر ميولنا الجنسية ومنشئها، يتعذّر علينا الانحياز لإحداها، وهو في كلّ أحواله، انحياز لن يفيدنا كثيراً في دعم حقوق المثليين، خلافاً لما جرى الاعتقاد به، وهذا ما سنعرج عليه لاحقاً، على أنّ إحدى تلك الفرضيات، يهمّنا أن نستعرضها الآن، ليس انحيازاً إليها، وإنما لأجل عدم تركها وإهمالها.
أقصد بالفرضية العلمية تلك التي ينادي بها الكثير من الباحثين، وتؤكّد أننا جميعنا نولد مثليي الجنس، أو أننا، على وجه التحديد، نخرج من أرحام أمهاتنا بميول جنسية مزدوجة، ويستغرق منا الأمر حيناً من الدّهر قبل أن يصبح غالبيتنا غيريي الجنس؛ هذه الفرضية، سواء لأننا نلاحظها بالحسّ والحواسّ، أو لمجرّد أنها فرضية علمية، فإنّها تمنحنا الحقّ في أن نستنتج بأنّ الممارسات الجنسية المثلية حقّ طبيعي من حقوق الإنسان، وأنها لكذلك في كلّ أحوالها؛ سواء اعتبرناها ثمرة الفطرة أو الرّغبة أو الإرادة، وفي هذا التقدير خلاف سنعرض لبعض جوانبه بعد حين.
ماذا بوسعنا أن نستنتج الآن؟
هل يمكننا أن نستنتج بأن المثليين والمزدوجين هم أشخاص طبيعيون، بل هم أكثر طبيعية منّ الغيريين المنزاحين عن فطرتهم الأولى؟
معظم الثقافات التقليدية تستحضر هذه الخلاصة، وتتفهم تلك القابلية للمتعة المثلية وللمتعة المزدوجة، ولا تختلف سوى في أساليب ووسائل تلبيتهما وحدود الهامش المتاح لهما، وحتى بعض الديانات التي يبدو وكأنها جرّمت الأفعال المثلية، فإنما جعلتها في عداد شهوات الجنّة ومتع الآخرة، وفي كلّ الأحوال ثمّة تواضع إنسانيّ على الاعتراف بوجود شهوة مثليّة، متجلّية أو كامنة، لدى الكثيرين ولو بدرجات متفاوتة في التجلّي والكمون.
هل بوسعنا أن نختبر فرضيتنا الآن؟
إذا كانت صحة أيّة فرضية تتأتّى من قدرتها على تفسير ظواهر جديدة، فلعلّنا نلتمس في فرضيتنا، تفسيراً لظاهرة رهاب المثلية، باعتبارها نوعاً من الخوف الباطنيّ من شيء نحمل أثره في ذواتنا على الدّوام.
وترانا الآن واقفين على عتبة سؤال جديد: إذا كنا لا نولد بالضرورة غيريين، فكيف نصبح كذلك؟
هل بالتعلم والتمرّن حدّ المقاومة والعناد؟ هل هو الضغط الثقافي لأمّهاتنا تحت تأثير عقدة الخصاء لديهن؟ هل هو الميل الطبيعي لأعضائنا التناسلية صوب علّتها الغائية؛ حيث علّة وجود القضيب، أن يمتع المرأة، وعلّة إمتاعها الإخصاب، وعلّة إخصابها التناسل…؟
موضوع العلّة الغائية يضعنا أمام أوّل تحدّي، وهو أرسطو.
أرسطو والمثليون: استنباط متسرّع
العلّة الغائية هي ما يبرّر وجود الشيء حسب منطق أرسطو، ومن ثمّة قد نستنتج ولو باستدلال متسرّع، بأنّ الشهوة موجودة من أجل غاية أخرى تتجاوزها، لهذا السبب انهال الكثير من المناضلين المثليين بالنقد على أرسطو، إلاّ أنهم فعلوا ذلك لسبب آخر أيضاً.
لا شك أنّ أرسطو لم يكن معادياً للممارسات المثلية، لكنّ الكثير من المناضلين المثليين يعتقدون بأن منطق أرسطو ثنائيّ القيم، قد كرّس في الوعي البشري تلك النّظرة الثنائية إلى الجنس، والموصولة بمبدأ الثالث المرفوع: إنّك إمّا أن تكون ذكراً أو تكون أنثى، ولا يمكنك أن تكون كليهما في نفس الآن، ولا يمكنك أن تكون لا هذا ولا ذاك في نفس الآن.
أرسطو لم يقل ذلك القول بصريح اللفظ والعبارة، لكنّ الكثيرين اعتقدوا أنّ ذلك القول هو النتيجة المستنبطة من منطق أرسطو ثنائيّ القيم.
ولعلّ هذا الاعتراض الجنسمثليّ على منطق أرسطو، يُغفل معطى تاريخياً أساسياً، وهو أنّ رفيق أرسطو ونموذجه في البطولة والزعامة كان مثلياً سلبياً، ألا وهو الإسكندر الأكبر، فكيف يجوز لنا أن نستنبط من منطق أرسطو أية نزعة معادية للمثلية؟ ألا يتعلق الأمر باستنباط متسرّع؟
فرويد والمثليون: العودة إلى السياق
العديد من المناضلين المثليين الجذريين، يعتقدون بأنّ سيغموند فرويد يتحمّل مسؤولية إشاعة الموقف الذي انتهى إلى تصنيف الممارسة المثلية ضمن الأمراض النفسية، وذلك حين اعتبر المثلية "توقّفا في النموّ الجنسي" للإنسان، ومعلوم أنّ المنظمة العالمية للصحة نفسها، لم تقرّر حذف المثلية من لائحة الأمراض النفسية إلاّ في عام 1990، بما يعني أننا تأخرّنا كثيراً، وأنّ نخب الفكر العقلاني الغربي قد تكون ساهمت في هذا التأخّر.
نفترض ابتداء بأنّ الأمر يتعلّق بمجرّد سوء تفاهم، انتهى إلى تصنيف مكتشف اللاّشعور، ومن منظور بعض الحركات المثلية الجذرية، ضمن التيار المحافظ والمعادي لحقوق المثليين، والحال أن اللوم الموجه لفرويد، يغفل عن ذكر، أو عن إدراك، السياق الذي قرّر فيه فرويد -والذي لم يكن معادياً للجنسمثلية- أن يعتبر المثلية بمثابة توقّف في النموّ الجنسي.
موقف فرويد جاء ضمن فرضيات تحليلية كانت في طور الاختبار، فرضيات تجعل المراحل الأولى للنمو الجنسي عند الأطفال، بمثابة الحلقة المركزية والحاسمة في تحديد اتجاهات النمو عند الإنسان، لذلك كان فرويد يستبعد أية إمكانية لتعديل اتجاهات النمو الجنسي، والتخلص من التثبيت La fixation، إذا ما "اكتمل نضج وتطوّر" الشخص في أيّ اتجاه من الاتجاهات، غير أنّ الموقف التحليلي الفرويدي تزامن أيضاً، مع سياق اشتهر بحملات التحريض على كراهية المثليين، حملات شنّها النازيون منذ المراحل الأولى للدعاية النازية، وجاءت في سياق تاريخ ثقافي معاد للمثليين، قبل أن يتم اقتياد العشرات من المثليين إلى معسكرات الإبادة الجماعية، وذلك عقب بداية هيمنة الحزب النازي على السلطة. وهكذا طوّر فرويد فرضياته التحليلية، في اتجاه نزع طابع الجريمة عن الميول الجنسية للمثليين، وسحب المشروعية عن دواعي تجريمهم ومعاقبتهم.
أما حين نستحضر موقف فرويد من المثليين، بمعزل عن فرضيات النمو الجنسي عند الأطفال، وبمعزل عن حملات التنكيل التي عاينها فرويد، مع بدايات صعود النازية، فإننا نظلم كلاّ من التحليل النفسي والمثليين على حد سواء، وحين نقف عند حدود القول بأنّ التحليل النفسي اعتبر المثليين أشخاصاً "يعانون" من "أوديبية مقلوبة"، بمعنى "غير طبيعية"، جراء "توقف نموهم الجنسي"، فإننا ننسى بأن الأصل في كلام فرويد أنه يختبر قدرة فرضياته التحليلية على مواجهة سياق ثقافي معادي للمثليين، منذ القرون الوسطى ووصولاً إلى حملات النازيين.
وأيّا يكن، فحتى لو اتفقنا مع بعض المواقف التي تقول بأننا حين نعتبر المثلية توقفاً في النمو الجنسي، فإننا نفتح الباب أمام القول بأنّ المثلية عرض سيكولوجي، إلاّ أن فرويد هو نفسه الذي يعتبر كافّة أشكال الإبداع الفنّي والجمالي من أطيب ثمرات الأعراض النفسية والأمراض اللاّشعورية، إننا حتى في الحبّ الجنسي الغيريّ، نفيض باستيهامات غير عادية، وقد لا تكون سوية بالمعنى المبتذل للسوي، ومحصلة القول، أن فرويد هو من يعلمنا أننا لا نكون أسوياء ولا نكون عاديين إلا حين نكون مبتذلين.
لقد ناهض فرويد موقف النازيين والذي يعتبر بأن المثلية قدر بيولوجي يحمله بعض الأشخاص منذ ما قبل الولادة، ولا سبيل لتغييره من غير الاجتثات، وحاول أن يعثر للظاهرة على تفسير يحررها من كل أشكال الحتمية البيولوجية، ليجعلها مجرّد اختيار لاشعوري.
وواقع الأمر أن المثليين غير متماثلين وغير متجانسين، فمستويات التفريغ العاطفي تختلف، ودرجات السلبية أو الإيجابية تتفاوت بدقة لا متناهية من فرد لآخر، كما أن العلاقة بين الميل والممارسة تتنوّع من فئة لأخرى، وما قد يندرج في بعض عوامل الوراثة لدى البعض، ليس أكثر من ميول نفسية لدى البعض الآخر، وما هو مجرّد ميل جسدي لدى البعض، هو أيضاً انجذاب عاطفي لدى آخرين، ومن هنا لا يمكننا أن نستبعد الفرضية الفرويدية عن بعض مظاهر الجنسمثلية باعتبارها نوعاً من الأوديبية المقلوبة، شريطة أن لا نعتبر الأمر سلبياً، تماما كما تستطيع بعض الحركات المثلية أن تفترض أهمية التفسير البيولوجي، من غير أن تنتهي إلى نفس النتائج الاستئصالية للنازيين.
سارتر والمثليون: سوء تفاهم
يتعرّض سارتر، هو الآخر، إلى انتقادات لاذعة أحياناً، من طرف بعض الحركات الجنسمثلية، والتي وإن كانت تسجل لصالحه بعض الاختراق الإيجابي للموضوع، في كتابه الشهير، "الوجود والعدم"، إلا أنها لم تشفع له الصورة السلبية للمثليين في العديد من أعمالة الروائية والمسرحية، حيث يصبح الجنسمثلي لوسيان فلورييه، في قصة "طفولة زعيم"، من بين أعضاء اليمين المتطرف قبل أن يتحوّل إلى متعاون مع الاحتلال النازي.
وفي مسرحية "الجلسة المغلقة"، تجد امرأة جنسمثلية نفسها في جهنم داخل غرفة مغلقة، وفي رفقتها الأبدية رجل وامرأة جنسغيريان، عقوبتهما أنهما سيعجزان عن ممارسة الجنس أمام أنظار ممتعضة لامرأة لا تشاركهما نفس الميل، وعقوبة هذا الأخيرة أن ترى ما لم تكن تحبّ، وهنا سيطلق الرّجل عبارته الشهيرة: جهنم هي الآخر.
وراء ما يبدو وكأنها صور سلبية للمثليّ وللمثلية، فإنّ المعادلة الصعبة التي جابهها سارتر، تتعلق بالسؤال التالي: كيف نجعل الشخص المثلي يتحرّر من الشعور بالذنب، والذي قد يسوقه أحياناً، إلى اختيارات سياسية عنيفة ومتطرفة، ولو من باب التكفير على ما يراه المجتمع ذنباً، وذلك من غير أن نسلمه للحتمية البيولوجية؟ بمعنى كيف نجعل الجنسمثلي حرّاً ومسؤولاً عن اختياراته من غير أن يشعر بالذنب؟
وإن كانت الحتمية البيولوجية، شأنها شأن الجبرية الدينية، قد حرّرت الإنسان من الشعور بالذنب، إلا أنها في المقابل قد نزعت عنه حريته، أما وأنّ الإنسان محكوم عليه بالحرية، وأننا في كل لحظة نختار، كما يقول سارتر، فلا بدّ أن يجد هذا الأخير طريقة لتحرير المثليين من الشعور بالذنب من غير التفريط في قضية أنهم أحرار في اختياراتهم.
لقد أماط سارتر اللثام عن أمر بالغ الأهمية، ويجب على الحركات الجنسمثلية أن تأخذه بعين الاعتبار، وهو أن أسوأ ما قد يعانيه المثلي، فيسوقه إلى اختيارات سياسية متطرفة، كما فعل لوسيان في قصة "طفولة زعيم"، هو عقدة الشعور بالذنب، لذلك فمن مصلحة المجتمع أن يساعد المثليين على التحرّر من تجربة الشعور بالذنب، وذلك عبر اعتراف الجميع بأن الميول الجنسية للأفراد حقّ أساسي من حقوق الإنسان، ويبقى السؤال، ألا ينطبق هذا التحذير على الكثير من المتطرفين الدينيين أو الجهاديين، والذين يخفون خلف رداء الدفاع الشرس عن الشرف ميلاً لاشعورياً يشعرون معه دائماً بعقدة ذنب كامنة؟
وبالعودة إلى فرويد، ألا يكون المرض الفعلي، هو التعامل مع "المرض" وفق الشعور بالذنب بدل التعامل معه كشحنة للإبداع، للإندفاع، وللحياة غير المبتذلة؟
إن سارتر الذي لا يؤمن بوجود طبيعة بشرية ثابتة، وينفي إمكانية اختزال الإنسان في أي جزء أو جانب هوياتي، يضعنا أمام سؤال هام؛ هل بوسعنا أن نعترف بحقوق المثليين بناء على حق الإنسان في الاختيار، ومن غير أن نجعل هذا الإنسان يقع في تجربة الشعور بالذنب؟ أم أننا لا نستطيع أن نعترف بتلك الحقوق إذا لم نفترض وجود حتمية بيولوجية تحدد لنا مسبقاً ميولنا الجنسية؟ ألسنا هنا نمنح الحرية للإنسان بناء على أنه لا يستطيع أن يكون حرّاً؟ ألسنا هنا نستعيد الموقف الصوفي القديم والذي يدعو إلى التسامح مع اختيارات الناس بناء على أنهم لا يختارون إلا ما قدره الله عليهم؟
إن أهم ما انتبه إليه جان بول سارتر، لاسيما في روايته طفولة زعيم، هو أن شعور المثلي بالذنب، والذي هو محصلة تجريم العلاقات المثلية، قد يقود الأشخاص المثليين، إلى نوع من إسقاط الذنب على الذات، ومن ثمة النزوع إلى اختيارات سياسية تكفيرية ومتطرفة لمقاومة ميولاتهم المثلية، والواقع أننا نستطيع أن نستنتج بأن الاعترف بوجود ميول جنسمثلية متفاوتة التجلي والظهور لدى الغالبية العظمى، يعد طريقاً أساسياً لبناء مجتمع الوضوح والشفافية، فيه يتحقق مبدأ اعتراف الجميع بالجميع، والذي هو غاية التاريخ ومرمى العقلانية، وفق الأطروحة المركزية لهيجل.
نحو منظور كانطي للشهوة
يقول كانط بأن الإنسان غاية في ذاته، بمعنى أن الإنسان ليس وسيلة لأية غاية أخرى، وأن كل فرد هو غاية ذاته، وتبعاً لذلك، لا يحق لأي شخص أن يحط من قيمة الكرامة الإنسانية، سواء في ذاته، أو في ذات غيره، لايحق له أن يجعل من نفسه خادماً ومطيعاً لغايات أخرى.
لنضع أمام نصب أعيننا هذا المبدأ الكانطي الهام، ولنتساءل حول الموقف الذي يعادي ويجرم المثلية، معتبراً أن ما يبرر الشهوة الجنسية ويمنحها المشروعية، هو غايتها والمتعلقة بالتكاثر والتناسل، ويستنتج تبعاً لذلك، بأنه إذا كانت مشروعية الجنس الغيري مستمدة من تحقيق غاية الإنجاب، فإن الشهوة الجنسمثلية لا تبررها أية غاية، ولذلك فإنها تفقد مشروعيتها، وتستحق الإدانة والتنديد.
على ضوء المبدأ الكانطي إياه، ما عسانا نستنتج من هذا الاعتراض المناهض للحقوق الجنسية للمثليين؟
نستنتج من ذلك الاعتراض بأن الإنسان مجرّد أداة للإنجاب، وأن الشهوة الجنسية ليست غاية في ذاتها، ليست شيئاً مبرراً في ذاته، بل إنها تكاد تكون شيئاً غير مبرر بإطلاق، مجرّد فخ وضعته الطبيعة لغاية النسل، مجرّد طريق غبية نحو هدف أكثر ذكاء، وسيلة لا قيمة لها في ذاتها لو لم تبررها غاية سامية، وما هي هذه الغاية السامية؟ بعد الشهوة يجب أن ينتهي القذف إلى الرّحم مباشرة.
هكذا نفهم كيف أن إدانة الشهوة المثلية هي جزء من إدانة الشهوة الجنسية بأكملها، واعتبارها عملية مهينة لا تشفع لها سوى غايتها، والتي هي الإنجاب.
من هنا تمثل الشهوة المثلية انقلاباً في قيمة الشهوة الجنسية، انقلاب يتعلم منه الغيريون والمزدوجون بدورهم، كيف يتحرّرون من تصور الشهوة باعتبارها مجرّد وسيلة، والنظر إليها كغاية في ذاتها، وربّما هي أم الغايات كما سبق أن أقرّ الأبيقوريون قبل مئات السنين.
ماهو الزّواج المثلي؟
منذ بداياتها الأولى في سنوات الثمانين، واجهت الحركات المثلية تحدياً مفاجئاً، فقد تزامن ظهورها مع البدايات الأولى لظهور مرض الإيدز، ولم يكد ينفرط عقد الثمانين، حتى كان قد توفي عدد ملحوظ من المناضلين والفنانين والمفكرين المثليين، جراء المرض الجديد.
راهن الكثير من المحافظين على أن الإيدز هديتهم من السماء، وأنها الصخرة التي ستتحطم عليها موجة الحركة الجنسمثلية في مهدها، بل وستنكسر عليها كافة أشكال ومظاهر الحريات الجنسية، وهو الانتظار الذي لم يتحقق.
فبخلاف ذلك التوقع، تحوّلت المجموعات الجنسمثلية، من مجموعات مغلقة، متخفية وتعاني من الهشاشة والارتباك أمام انتشار المرض، إلى مجموعات علنية، شفافة ونشيطة في مقاومة مرضّ الإيدز، ومعه كافة الأمراض المنقولة جنسياً، وقد ساهمت تلك المجموعات، بنحو حاسم، في انحسار المرض، ولعلّ المرض دخل فعلاً، طور الانحسار داخل المجتمعات الأكثر شفافية وتسامحاً. على أنه ومن أجل كسب المعركة ضدّ المرض، تبنّت الحركات الجنسمثلية، داخل المجتمعات المتقدمة ثم خارجها، قضيتين أساسيتين: العازل الطبي والزّواج المثلي.
فقد كان التحدي المطروح أمام الجنسمثليين يتعلق بالسّؤال التالي:
كيف نحارب الإيدز، ومعه كافة الأمراض المنقولة جنسياً، من غير القضاء على الحرية الجنسية ومن دون المساس بكرامة الجنسمثليين؟
الذي يحمي الحرية حسب سارتر، هو المسؤولية والإلتزام.
حين ننقل هذا المبدأ السارتري إلى مجال الحريات الجنسية، ماذا نستنتج؟
نستنتج بأن الزّواج المثلي الذي اقترحته الحركات الجنسمثلية ضمن مطالبها، في مواجهة انتشار الإيدز، يمثل أيضاً، تكثيفاً لقيمة الحرية الجنسية من حيث هي مسؤولية متبادلة، التزاما واضحا، اعترافا متكافئا، وقبل ذلك، تعاقدا حرّا بين إرادتين حرّتين؛ إرادتان اثنتان فقط.
وإذا كنا قد أعلنّا منذ البداية، بأنّ دعم حقوق المثليين والمثليات، لا يشترط بالضرورة، الانحياز لأيّة فرضية من الفرضيات العلمية حول مصدر ومنشأ ميولنا الجنسية، فلأننا نعلم علم الحسّ السليم، بأنّ الوطن للجميع والفراش لاثنين فقط.